تجربة الثقافة: حدود التمركز الأوروبي وانفتاحاته عند فوكو

Jon SOLOMON

المترجم : AL NABWANI Reem


  • fr
  • en
  • ar
  • الصيغة متعددة اللغات
  • الصيغة البسيطة

تعبر مجلة ترانس أوروبيان Transeuropéennesمع بداية انطلاقها في حلتها الجديدة عن استعدادها الكامل لاستئناف التفكير الدائم حول أحد  التعارضات الجوهرية في زماننا أي: العلاقة بين الترجمة والجهات الثقافية. وعلى الرغم من أن هاتين الظاهرتين تشكلان جزءًا من الحياة اليومية منذ بدايات القرن الواحد والعشرين، إلا أن فهمنا العام لهما قد تشكل بقدر كبير من خلال مفهومٍ جامد -ولربما قبلي  للثقافة-. فعلى أساس هذا المفهوم تستند وبشكل قار العديد من الافتراضات المتعلقة بالفرادة المميزة للثقافة والتي فُصِّلت على مقياس مقدمات الفردانية التملُّكيّة الانجليزيّة ولُخصت في الهيئة السياسية للدولة الوطنية  وللغة القوميَّة. إن ما ستلتزم مجلة ترانس-أوروبيين  Transeuropéennes بكشفه، في مقابل نظام الفهم السائد، هو أن "التجربة اليومية تتكون من المواجهة مع الموضوعات المنبثقة عن الحراك بين الثقافات أكثر مما تنشأ عن الثقافات القومية الخصوصية. وعلى نحو اكثر جذرية نقول: إن مثل تلك التحركات تسبق في الواقع هذه الثقافات الخصوصية نفسها و تكون بذلك مكوِّنة لها" (كاليتشمان و كيم، 2010). و بدلاً من تتبع العلاقة بين التجربة والترجمة والجهات الثقافية بطريقة شاملة- وذلك لأن نقل الوظيفة من تايبيه  Taipeiإلى شانغهاي يجعل من هذا العمل عملا مستحيلاً بالنسبة لي حالياً- فإنني أود هنا أن نتقاسم خط التساؤلات التي قمت بها  مؤخراً فيما يتعلق بنقد المركزية الأوروبية عند ميشال  فوكو، الأمر الذي قد يساعد على تسليط ضوء خارجي على بعض المسائل المطروحة  للنقاش. 

 

ميدان الجغرافية-الثقافية كأداة للسياسة-الحيوية:

 

إذا كان الإنسان- كما أكد فوكو في كتابه الكلمات والأشياء- هو صنيعة أو نتيجة لطبقة أركيولوجيّة أو لمريج ثنائي بين التجريبي والمتعالي، وبين التجربة والمعرفة، فإن ذلك يستدعي أن ’الوسط‘ الذي يعيش فيه هذا الإنسان ليس إلا تكنولوجيا لمعالجة المشاكل المصاحبة لهذا الالتباس.

دعونا نلخص المقولة التي تشرح كيف يعيش إنسان  فوكو المعاصر: يعرض كتاب الكلمات والأشياء معضلة العلاقة بين المعرفة والتجربة كواحدة من "المخاوف المنهجية" المحددة للعصر الحديث حيث ينشأ جذر هذه المعضلة المنهجية عن الوضعيات الازدواجية ’للإنسان‘. فالإنسان كائن ستصل فيه مثل تلك المعرفة  حدا يجعل كل معرفة ممكنة" (فوكو 1966\1973 ،318\329). إنها ليست محاولة لجعل ‘الإنسان‘ موضوعاً للعلم، أو لوضعنة objectivize الوجود الإنساني الذي هو بالنسبة لفوكو سمة التحديد الأساسية للطبقة الأركيولوجية الحديثة، وإنما هي محاولة للجمع بين ذلك الجهد المبذول مع محاولة مماثلة لاختبار حد المعرفة بذاته والذي يحدد الصورة الحديثة للإنسان. هناك توتر دائم بين التجربة والمعرفة وهو ما يحدد الموقف الأنثربولوجي للحداثة. إن محاولة كشف "شروط المعرفة على أساس المكوِّنات التجريبية المُعطاة فيها" (فوكو1973\1997 ،319\329) تؤدي إلى سلسلة من التذبذبات الحتمية بل والمتعذر حلها بحيث تحاول كل الأنساق- على تنوعها واختلافها في الفكر الحديث، بدءً من الوضعية والتجريبية وانتهاءً والجدلية السالبة  والفينومنولوجيا- ضبطها ولكن بدون نجاح.

 إنه، وباختصار سريع، ذلك التذبذب بين مكونات التجربة وبين الحدود المتعالية للمعرفة ،  بين التحليل ذي النمط الوضعي حيث ("تحدد حقيقة الموضوع حقيقة الخطاب الذي يصف تكوُّنه" (فوكو 1966\1963 ،320\331)) وبين خطاب ذي نمط تبشيري بعالم آخر eschatological حيث ("تتكون حقيقة الخطاب الفلسفي من ]وعد اﻟ[ حقيقة وهي في طور التكوُّن"(فوكو 1966\1973 ،320\331))؛ إنه التذبذب بين الطبيعة (التي تحدِّد التجربة) والتاريخ (الذي يحدِّد المعرفة)؛ وأخيراً التذبذب بين جسدٍ فرد وبين حضارة مشتركة. في وجه هذه السلسلة من التذبذبات الجوهريّة، يبحث الفكر المعاصر دائماً- باستثناء ذلك التيار البديل للفلسفة الحديثة المُمثَّل بنقائض سبينوزا العنيفة- عن توسيط حدٍّ ثالث. يقترح فوكو أن هذا الحد الثالث يأخذ دائماً شكل "التجربة الفعلية". مع ذلك فإن اللجوء إلى التجربة الفعلية لا يحل الازدواجية أو الثنائية الموجودة منذ البداية. "إنها لا تفعل أكثر من العناية بشكل أكبر بإرضاء المتطلبات العاجلة التي طرِحتْ منذ أن قامت المحاولة لجعل التجريبي، في الإنسان، يقوم مقام المتعالي" (فوكو 1966\1973 ،321\332). من وجهة نظر فلسفية، نتيجة لهذه الثنائية هي عبارة عن تراجع مستمر وسلسلة غير متناهية من التنقلات في الاختلاف ’الصغير‘، بل والمتناهي الذي "يمكث في تلك اﻟ ’وand  الموجودة بين التقهقر و العودة , بين الفكر و اللا فكر ,بين التجريبي و المتعالي ,بين ما يتعلق بنظام الوضعية  و ما يتعلق بنظام الأُسس". (فوكو 1966\1973 ,340\351). يلجأ الفكر الأكثر حداثة إلى فئة التجربة الفعلية ليوسِّط ثقل المتعارضات التي جمعها لغاية فردية متناقضة. إن على الثنائية التجريبية-المتعالية التي هي الإنسان أن تحاول إصلاح الانقسام المتعذر إصلاحه والذي يُكوِّن الإنسان من البداية نفسها.هذه الحركة الدائرية المتسارعة (كمطاردة الكلب لذيله) تشكل نموذج و -قضية-  الحداثة الأساسيين كما تم تعريفها من قبل المنهج الأركيولوجي.

 

تقوم فرضيتي على أن مفهوم منطقة أو إقليم الجغرافياـالحضارية لا يزال واحداً من الأجهزة الأساسية (dispositifs) التي بواسطتها تمت إدارة المخاوف المنهجية للعلاقة الدائرية بين التجربة والمعرفة في الفترة المعاصرة. لوضع هذه الفرضية ضمن المصطلحات الفوكويَّة, أقترح تفسيراً أركيولوجيَّاً لمعنى السياسةـالحيويَّة للتقنيات الحكوميَّة التي تتعلق بأجهزة (dispositifs) مناطق الجغرافياـالحضارية .

 

التجربة و السياسة-الحيوية:

 

باتباع كانطية فوكو, التي تعتبر أن الابستيم لا يستطيع أن يعكس شروط إمكانها الخص الخاصّة , أخال أن الثقافوية هي في الواقع أحد الشروط الأساسية الضرورية للمنهج الأركيولوجي وهي في نفس الوقت نمطه السياسي ـ الحيوي في العمل. بمعنى آخر, أقترح أن الثقافوية -بصيغة المركزية الأوربية- تشكل ’القبلي التاريخيةت ﻟ  الكلمات والأشياء. إذا كان الهدف الكانطي هو تفسير للأبعاد الصورية للتجربة عن طريق استكشاف الحدود المتعالية للمعرفة, فإن المشروع الفوكوي يتخذ من الأنواع الخاصة للتجربة المشروطة بشكل التجربة نفسها موضوعاً له. لقد تحوَّلت مشكلة "التحديد" التي رأيناها سابقاً إلى لعب دورٍ حيوي في تطوير المنهج الأركيولوجي, متجاوزة إياه غلى  مفهوم الممارسة الذي يشكل همّاً رئيسياً في أعمال فوكو. أُشير هنا إلى العمل الدقيق لمارك جابالله Marc Djaballah الذي يقدم رؤية جوهرية في التقارب بين كانط وفوكو فيما يتعلق بمفهوم التجربة. إذا كان الخطاب - كما يلخصه جابالله- "مكوَّناً من ممارسات مصاغة بشكل محدد بحيث تشترط أن يقوم وجودها في أي وقت وأي مكان معطيين على أساس طريقة الوضوح التي تقع، بشكلٍ تجريديّ، بين علم الدلالة والمنطق الصوري" (Djaballah 2008-227 )، فسيكون من الأهمية بمكان إذن أن نَعرِف كيف تُعرِّف الحد في الخطاب/ الممارسة/التجربة. إن الطبيعة الإشكالية لهذا الحد قد بدأت مع دريدا في قراءته النقدية الواسعة لمفهوم الجنون عند فوكو بوصفه مفهوماً كليانيا totalizing- وإذن مفهوماً عقلانياً تسلطياً (دريدا 1978). لا أبتغي من وراء إبراز هذا النقد الدريدي تجريد الأركيولوجي على المستوى المنهجي بشكلٍ كبيرٍ جداً بقدر ما أريد فتحه على منظور عدم التحديد وعلى كل ما هو جوهريّ بالنسبة للمنظور السياسي ـ الحيويّ. من المؤكد أن استدعاء "كليَّة ثقافيّة مُعطاة" (Djaballah 2008,231 and 236). وعلى وجه التدقيق لا يتّفق مع الغاية من الاحتياطات المنهجية عند فوكو ضد كلٍ من وضعنة objectivization التجربة واختصارها الفينومينولوجي. في بحث فوكو  ليست شروط ‘التجربة الحقيقية‘ معطاة كمواضيع للخطاب؛ بقدر ما هي "بنية الممارسة التي تحدد أشكال التجربة التي أحدثتها" (Djaballah 2008,222 ). ولكن، وبحسب الطريقة الفتغنشتانية، إذا كانت "قواعد الممارسة تربط نفسها بالعلاقات التي تُكوِّن مواضيع" (Djaballah 2008,231), فإننا يجب أن نتساءل ما الذي يحدث عندما تتداخل أو تُستَوعَب العلاقات التي تشترط "واقعا ثقاف معطى" مع تلك التي تشترط وجود علاقات بين التنوعات المختلفة "للوقائع الحضارية المعطاة "؟ بمعنى آخر, ماذا لو كان ’المعطى‘ المعترف به للثقافة على شكل مونادات [جواهر روحية] متمايزة أو أسماء معدودة (ساكاي 2009 ) ما هو إلا معيار يُنظِّم – ويُطبِّع- المواضيع الثقافية؟ عندما يمكن الاعتراف بهذه الإمكانية, فإنه يصبح من الإلزامي استكشاف الفكرة القائلة بأن الثغرات بين الثقافات ليست واضحة لثقافة معينة بل ربما يتم تدبيرها في الواقع من خلال تقنية أو ممارسة عامة. بمعنى آخر ,ماذا لو كان هناك تكنولوجيا سياسية-حيوية تعمل خلف المنهج الأركيولوجي؟ مهما يكن من أمر, فإن الأركيولوجي ما زال مهماً لنقد المركزية الأوربية نظراً لرفضه العميق لعدد من المواقف الفلسفية التقليدية المتعلقة بوضع الموضوعات والتجربة. فهو يرفض الافتراض الواقعي بأن الموضوعات معطاة بنفسها قبل التجربة; كما يرفض كذلك الافتراض المثالي بأن الموضوعات لا يمكن فهمها إلا بالنسبة للذات في التجربة؛ وأخيراً هو يرفض أيضاً الافتراض الفينومينولوجي الذي يرى أنه لا يمكن فهم كل من الموضوعات والتجربة إلا من خلال اختزال القصدية الأصليّة ) أي: عقلانية الوعي.

تتابع السياسة-الحيوية هذه النزعة المنهجية: إن ظهور موضوع السكان في القرن السابع عشر هو نتاج للممارسات الخطابية المؤسسة من قبل" نظام فنون الحكم"  governmentality . في عمل فوكو حول الجنسانية- والذي يستند في مركز تطوره على مفهوم السياسة الحيوية- "تُفهم التجربة ]أي التجربة الجنسانية[ كعلاقة متبادلة ,في الثقافة, بين حقول المعرفة, وأنماط من المعيارية, وأشكال من الذاتية" (فوكو 1984\1985 (1990) ,4\؟؟). تظل الأمور على ما يرام  إلى أن نبدأ باستشكال الثقافة التي  ربما تكون الاسم المعطى في نفس الوقت لسلسلة غير محددة بين ’حقل معرفة‘، ونمط من المعيارية, وشكل من الذاتية‘ –هذا يعني أن الثقافة قد تكون هي نفسها تكوين خطابيّ مُنظِّم للتشتت المُنتظم للتصريحات بغض النظر عن ’الثقافات‘ التي تأخذ فيها هذه التصريحات مفعولاً.

بدلاً من الدخول مباشرةً في المشاكل الفلسفية الشائكة التي تُثيرها هذه المقاربة للتجربة[1]، أود أن ألفت الانتباه إلى الإشكالية القائمة بين عمل فوكو في السياسة-الحيوية في أواخر السبعينات وسيرته الذاتية. في أوائل 1978- أي بُعيد الفترة التي حدَّدتُ فيها التحول من البيولوجيا نحو الاقتصاد السياسي من خلال محاضرات فوكو في الكوليج دي فرانس- قام فوكو بزيارة إلى اليابان تضمّنت زيارته المشهورة إلى معبد زِن في شهر نيسان، وزيارتان إلى إيران في شهري أيلول وتشرين الأول من نفس السنة، حتى يشهد ويقدم تقريراً عن الثورة الإيرانية. وهنا لدينا مناسبتان قام فيهما فوكو بالمشاركة بطريقة تجريبية مع ثقافة لا-غربيَّة. ليس مفاجئاً في كلتا الحالتين أن تحتل فكرة تجربة ما وراء المعرفة- والتي تكون الروحانية بالنسبة لها شكلاً لا مناص منه- مكاناً مركزياً في كتاباته عن هذه الأحداث. كما أن سنة (1978) هي أيضاً نفس السنة التي أجرى فيها فوكو مقابلة (أُجريت في نهاية السنة) وصف  فيها مشروعه الفلسفي الكامل بمصطلحات مفهوم التجربة (فوكو 2001 ،860-914). لا شك أن سنة 1978 كانت لحظة في مسيرة فوكو أصبحت فيها مسألة التجربة تجريبيّة بشكلٍ خاص.

كان الإستشراق في نفس تلك الفترة قوياً بنفس القدر وعلى صلة أكيدة بإشكالية التجربة. يبدو ذلك بشكلٍ مبدئيّ في زيارته لمعبد زِن الياباني- والتي علقتُ عليها مطولاً (ساكاي وسولومون 2005)- حيث بدأ فوكو يفترض بشكل تنبؤيّ أبعاداً سياسية خطيرة في رحلاته اللاحقة إلى إيران. على الرغم من أنني لا أشعر بأية نتائج حاسمة يمكن الوصول إليها استناداً إلى تلك الشواهد الظرفية، إلا أنني أشعر بأن هناك رابط جوهري بين تخلي فوكو عن المسائل البيولوجية في عمله على السياسة-الحيوية وعلاقته المحيرة بثقافة لا-غربيّة من جهة، ومفهومه الأركيولوجي للتجربة وعلم أصول السياسة-الحيوية من جهة أخرى. أعتقد أن النقطة الأساسية بين هاتين الحلقتين يمكن أن توجد في شخصية المثقف بوصفها علاقة رابطة تنتظم فيها المعركة بين التجربة والمعرفة. تترتب العلاقة بين هذين المفهومين بشكل طبيعي بطريقة تراتبيَّة وجدليَّة. إن معرفةً كتلك تولَد من التجربة في حين تستفيد التجربة من المعرفة. مع ذلك ومن وجهة نظر فوكو فإن هذه الجدلية تفيد فقط في تقوية دور الوساطة والمواءمة الذي هو بالضبط موقع الدولة. يتجلى مفتاح إدارة هذه المعركة في تنقل المؤسسات، ولذلك فإن من ينظر إلى الاستراتيجيات بدلاً من الوظائف، يرفض الموضوعات كما هي مُعطاة ويتحرك خارج المؤسسات (بل حتى "ضمنها") لكي يبقي عينه مفتوحة على أن السُّلطة معطى تركيبي التركيب. و لكي نُجمل كافة  هذه المسائل بعجالة،  يمكن القول أنه لربما لا يوجد في  أعمال oeuvres فوكو ما هو أفضل من تقاريره عن الثورة الإيرانية. بالرغم من الاستسلام الذي يقبض الأنفاس للإستشراق، فإن المرء يقع في هذه التقارير (روبرت يونغ يلفت الانتباه إلى مجازية المستشرق في عبارة "إرادة مشتركة مُطلقة" يونغ 1995، 1) على مقابلة[2] أُجريت في طهران في 23 أيلول 1978 تبرز أهميتها في أنها تزودنا بثلاثة مؤشرات دقيقة لنقد المثقف بوصفه جسداً يتوسّط بين التجربة والمعرفة. إن السياق العام لهذه المؤشرات يتعلق بالتحول التاريخي لدور المثقف من ما يدعوه فوكو "المتنبئ بالمجتمع المستقبلي" إلى مقاتل ملتزم "داخل الخندق" المكوَّن من التشعبات السياسية من "علم، ومعرفة، وتقنيات، وتكنولوجيا" (أفاري وأندرسون 2005، 184).

أولاً، يحدِّد فوكو رفض نموذج التحديث المحاكي  mimetic modernizationفي الثورة الإيرانية:

تفصيل صغير لفت نظري في اليوم الذي سبق زيارتي إلى السوق ... فجأةً عاد إلي ... هذه الموضوعات الغربية غير الملائمة للاستخدام، تحت شعار شرق تم تجاوزه، تحفر كلها على النقش: "صنع في كوريا الجنوبية".

شعرت بعدها أنني فهمت بأن الأحداث الأخيرة لا تعني عودة الانكماش والتشبت  بالمكونات شديدة الرجعية في وجه التحديث، لكنها تعني رفض التحديث- من قِبل حضارة بكاملها وشعب بأكمله- وهذا ذاته هو نزعة لتقليد القديم archaism. (أفاري و أندرسون 2005، 195).

في بداية عصر التحول السياسي والاقتصادي الذي لن يدعى إلا لاحقاً ﺒ "العولمة" و"ما بعد الفورديَّة" postfordism، فهم فوكو بشكل مبكر الطابع المتقادم  للتعارض الجوهري تقليد/حداثة الأساسيّ بالنسبة لنظرية التحديث الأمريكية بعد-الحرب. إن أية محاولة لفهم التحديث من خلال مخطط التعارض الثنائي بين التقليد والحداثة يصبح تقادُماً بمجرد ما  يتم بذلك استبدال سؤال الأصل والتأثير بالتركيب الذاتيّ. بمعنى واضح، فإن النقد الثوري للتحديث قد ارتبط - بتقدير فوكو- بمسألة التركيب الطبقي داخل إيران. في سلسلة من التقارير عن البنية الطبقية في إيران والموقع الخاص بالشاه، يُظهر فوكو أن التحديث هو تقنية إدارة سكانيَّة مستمدة من جدلية المصادرة بين النُخب الإمبريالية والمحلية والتي تشكلت من خلال تجربة شبه-الاستعمار. يمكن لحدث التركيب أن يُزيح علاقة القوة الاستعمارية القائمة على المحاكاة والمصادرة.

ثانياً، يُحدِّد فوكو بشكل ضمنيّ مشكلة الغرب بعلاقته مع اللا-غرب من خلال فئة اللامبالاة indifference.

علينا أن نبني فكراً سياسياً آخر، مُخيِّلةً سياسيةً أُخرى، وأن نُعلّم من جديد رؤية المستقبل. أقول ذلك هكذا فأنت تعلم بأن أي غربي، أي مثقف غربي مع بعض الأمانة، لا يمكن أن يكون غير مبالي لما يسمعه عن إيران (أفاري و أندرسون 2005، 185).

لم يتوسع فوكو في بنية وعملية اللامبالاة (في الواقع لدينا تحفظات عميقة عن تلك اللحظات عندما كان فوكو غير مبالي بشكل واضح بغير-الغرب، تحت ذريعة ‘الكفاءة’، كل ذلك بينما كان يتبنّى موقفاً يشير باستمرار إلى خصوصيّة "الغرب")، ولذلك يعود الأمر إلينا لنملأ الفراغات بأنفُسنا. من الواضح أن اللامبالاة لا تعني عدم التعلُّق، بما أن ما "يسمعه المرء عن إيران" هو مرتبط جوهريّاً بخلق "رؤية للمستقبل" جديدة. لاحظ أن الحملة ضد اللامبالاة هي مشروع تربوي هدفه خلق مستقبل بديل.

 لم يحدد فوكو أي نوع من المستقبل قد يكون هذا، ولكن يمكن أن نكون متأكدين أنه يتضمن كحد أدنى إعادة تعريف لعلاقات المأسسة institutionalized (بين الغرب و غير-الغرب ،بين المثقف والمجتمع ،بين المصادرة والعام، وهكذا.) كما يتضمّن نمطاً جديداً من التجربة (تجربة لا تتسم باللامبالاة )[3] .

 تشكل اللامبالاة للعلاقات الفعلية (للمصادرة)، مصدراً ذاتيَّاً استراتيجيَّاً متكاملاً للهيمنة الحديثة لما بعد/الاستعمار. دعونا في هذه اللحظة نؤكِّد على النقطة الحاسمة للارتباط : يجب أن تكون اللامبالاة مميزة عن الجهل الذي تكون فيه متأسِّسة على المعرفة. في الواقع فإن المعرفة- تُفهم في مصطلحات المعاقبة- بأنها وبدقة شرط إمكانية اللامبالاة.

ثالثاً، استشهد فوكو بتجربتين رمزيتين في العلاقة بين المثقفين والمجتمع والتين جعلتا التاريخ يتسم بما يدعوه بطريقة مميزة "ثقافتنا " و "الغرب ".

التجربة الأولى، كانت خلال القرن الثامن عشر حيث حاول الفلاسفة- أو من الأفضل أن نقول المثقفون في فرنسا وانكلترا وألمانيا– أن يعيدوا التفكير في المجتمع من جديد وفقاً لمبادئ السلطة الجيدة كما فهموها ... أنا لا أريد القول بأن الفلاسفة هم المسئولون عن هذا، ولكن الحقيقة هي أن أفكارهم كان لها تأثير على هذه التحولات. إن ما هو أكثر أهمية من ذلك، هو أن هذا المسخ الذي ندعوه الدولة هو إلى حد كبير ثمرة ونتيجة تفكيرهم ...

التجربة المؤلمة الثانية هي تلك التي لم تنبثق  بين الفلاسفة والمجتمع البرجوازي، وإنما انبثقت  بين المفكرين الثوريين والدول الاشتراكية التي نعرفها اليوم. انطلاقاً من تصورات ماركس، قامت تصورات الاشتراكيين- من أفكارهم وتحليلاتهم، التي كانت من بين أكثر الأفكار والتحليلات موضوعية وعقلانية والمضبوطة ظاهرياً- انبثقت نظم سياسية حقيقية، وتنظيمات اجتماعية، وآليات اقتصادية تُدان اليوم ويجب أن تكون منبوذة (أفاري وأندرسون 2005، 184-185).

إن دور الفكر العقلاني بوصفه خيراً عامّاً (للتحرُّر) كان دائماً مهددا بالاستيلاء من قبل الدولة التي تعمل تحت اسم الإنسانيّة الكونيّة لمصالح جماعة حصرية (أمةً أو حزباً). لقد كان موضوع التجربة متعارضاً دائماً مع اقتصاد الهيمنة الذي تُصبح التجربة، وفقاً له، موثقة كمعرفة تأديبية. 

إن التحدي الأساسي، الذي قد نستكشفه، هو ألا نفهم الهيمنة بوصفها قاعدة لشرعيَّة المعيار، بل بوصفه حدثاً في الدستور الاجتماعي.

إن تعليقات فوكو لم تُركِّز على أهمية الحكوماتيّة  governmentality كمفهوم حرج لفهم الصلة بين التجربة والمعرفة فحسب، ولكنها اقترحت كذلك-كما رأينا للتو- الطريقة التي تُصبح فيها الحكوماتيّة على نحو غير متعمَّد واقعة في فخ الرؤية الثقافويَّة. لم يكن ما رآه فوكو في الثورة الإيرانية أقل من أولوية الثقافة على الدولة وهو الافتراض بأن الثقافة توجد قبل الدولة وربما خارجها. من المؤكد أن الممر إلى خارج المؤسسات– الممر إلى جانب القوة، إلى جانب الإستراتيجيات بدلاً من الوظائف، وإلى جانب الممارسات بدلاً من الموضوعات المعطاة – كان سمة حاسمة في محاولة فوكو الإبداعية لنقد الدولة. ومع ذلك عندما يتضاعف الممر إلى خارج المؤسسات عن طريق ممر آخر إلى خارج الغرب (والذي، نؤكِّد، أنه لا يزال شكلاً مؤسساتيّاً آخر)، فإن فوكو يقع بالخطأ بوضوح.

هذا ما مكَّن فوكو أن يشير إلى تكافؤين متوازييِّن بين الثقافة والسكان: تماماً كما أن "ثقافتنا" تساوي "الغرب"، فإن "الثقافة ] الإيرانية [ بالكامل" تساوي " الناس بكاملهم". إن ما يتجاهله هذين التكافؤين المتوازيين هو بالضبط الطريقة التي من خلالها تكون المعادلة ثقافة = سكان هي بذاتها إنتاج اركيولجي لشكل خطابيٍّ خاص منه تقوم نتائج السياسية-الحيوية بربط المعرفة والتجربة .

باختصار، لقد جَمَّعنا  ملاحظات فوكو عن الثورة الإيرانية في ثلاثة عناصر رئيسية تقابل ثلاث ‘مهام‘ عُزيت ضمنياً لموضوع التجربة- بوصفها-ما هو ثقافيّ experience-as-intellectual: 1) بالنسبة لنقد علاقات القوة لما بعد/الاستعمار المرتكزة على المحاكاة ونزع الملكية فإنها توافق حدث التركيب الذي يشترك فيه حتماً موضوع التجربة-بوصفها ما هو ثقافي. لم يعد السؤال المركزي للمثقفين في عصر ما بعد/الاستعمار ذلك الذي يعمل على تطوير المناهج المضبوطة بشكل متزايد لتثبيت التوافق بين العالَم والمعرفة، وبمعنى آخر، ادعاءات-الحقيقة، ولكنه بالأحرى ذلك الذي يعمل على إزاحة العلاقات الاجتماعية بعيداً عن سؤال الأصل، والأساس الجينيّ والنَّسب. 2) بالنسبة  لمشكلة اللامبالاة، فإنها توافق مهمة ممارسات التأديبية المتحديّة التي تنظّم وتصنِّف العلاقة بين التجربة والمعرفة. يتمثّل التحدي لموضوع التجربة- بوصفها-ما هو ثقافي في اكتساب وعي بالطرق التي تُسجَّلُ فيها اللامبالاة– "إن الجهل المؤيَّد يتمثَّل في أن كل ناقد للإمبريالية عليه أن يقوم بالتسجيل" (سبيفاك 1988، 291)– في موضوع المعرفة من خلال الممارسات التأديبية. يشكل هذا أساس نقدنا للتمركز الأوربي عند فوكو. 3) بالنسبة لاستيلاء الدولة على الفكر العقلاني بوصفه خيراً عامَّاً، فإنه يتفق مع مهمة فهم الاستيلاء ليس كأساس للشرعيَّة، ولكن كحدث في الدستور الاجتماعي.

في الحقيقة من أجل فهم فوكو، يجب علينا أن نتذكر بأن المثقف ليس مجرَّد نتاجٍ أو عاملٍ لتقسيم العمل، ولكنه أيضاً شخصية أنثروبولوجية بالمعنى الذي يحوزه هذا المصطلح في الكلمات والأشياء، حيث يتَّسِم الإنسان الحديث بسلسلة من الثنائيات التي تنبسط على تلك الثلاثية المُكوَّنة من اللغة، والحياة، والعمل. تزودنا مقابلة فوكو في طهران بصورة قوية عن المثقّف بشكل عام كأحد هذه الثنائيات– التي هي رمزية بقدر ما يتعلَّق الأمر بالاختلاف بين المعرفة والتجربة. إن المثقَّف الذي يكون لامبالياً أحياناً لأنه واسع الاطلاع، والذي تكون ازدواجيته الخاصة القائمة بين التجربة والمعرفة توازي مباشرةً وتدعم، هذا إذا لم تخلق فعلياً، "مسوخيّة الدولة"، والذي تكون ممارسته الاجتماعية بوصفها مُنتج للمعرفة مُركَّزَة على مؤسسة المُحاكاة المعياريّة– مجالات ‘الحقيقة’ (مفهومة بوصفها تطابقاً بين الموضوع والتصريح)– أكثر من تركيزها على ما هو حدث التركيب بالضبط ،"الآخر الذي ليس هو فقط أخ ولكنه توأم، لم يولَد من إنسان ولا في إنسان، لكن بجانبه وهو في نفس الوقت....خارجيٌ بالنسبة له ولا غنى له عنه: إنه بأحد المعاني، الظل المُلقى مِن قِبل الإنسان كما ظهر في حقل المعرفة؛ وهو بمعنى آخر، النقطة العمياء التي يمكن من خلالها معرفته" (فوكو 1966\1973 ،326\337).

بهذا المعنى أفهم تقدير روبرت يونغ للمركزية الأوربية عند فوكو: " الكلمات و الأشياء يمكن أن يُرى كتحليل ليس للمركزية الأوربية بحد ذاتها، لكن لأركيولوجيتها الفلسفية والمفاهيمية" (يونغ 1995 ،9). إن استشراق فوكو الحاد ليس مجرد العكس  reversibilityلاستثماره في الخطأ المنهجي "للاحتواء الذاتي" الثقافويّ، فهو أيضاً، وبشكل أكثر حسماً، إشارة لعدم قابلية المُثقَّف لتفادي حالة العكس الكارثية والخلط بين الأقطاب المتعارضة للمعرفة والتجربة التي حُدِّدت في الكلمات والأشياء كميزة حاسمة للحداثة. يكمن جوهر المركزية الأوربية- بوصفها هيمنة جغرافية-ثقافية حديثة بامتياز، بالاقتصاد الذي يربط التجربة بالمعرفة من خلال وفرة القرارات الفلسفية مثل النفي الجدليّ والاختزال الفينومنولوجي (رجُلا القش الرئيسيان في أعمال فوكو). في الحقيقة، إن الفصل التاسع في الكلمات والأشياء مُكرَّس لتحليل العناصر المتعالية والتجريبية في دستور المعرفة الذي يُحوِّل "تحليل التجربة الفعلية" إلى "خطابٍ للطبيعة المختلطة" ملتبس المعنى على نحو  كامل (فوكو 1966\1973 ،321\332). تشكل كل من السلبية الجدلية والفينومنولوجيا، كلاً منهما بطرق منفصلة، ردوداً خاطئة بل وحتى مشابهة أركيولوجياً لهذا الخليط الإزدواجي الذي يُنتج التركيب الحديث للإنسان بقدر ما يُنتج بنفس الوقت كلاً من الذاتي والموضوعي في المعرفة. لقد أثبتَ ليونارد لاولور بشكل مقنع كيف أن نقد فوكو للطبيعة الازدواجية للمفهوم الحديث "لتجربة المعيش" (le vécu) تكمن في قلب نقد الإنسان الحديث المنشور في الكلمات والأشياء. ضد هذا النقد ﻟle vécu  أو للتجربة-الحية، اقترح فوكو فكرة le vivant، أو الحي، والتي أخذت نقطة انطلاقها مِن الفكرة الحيوية للخطأ عند كانغويلهم Canguihem. كتب لاولور في تفسير رفض فوكو لمفهوم التجربة-الحية :"إن نقد مفهوم اﻟ  vécu مستند على حقيقة أن العلاقة في اﻟ vécu هي خليط (un mélange) يغلقun écart infime.’’. "بالمقابل فإن مفهوم فوكو للعلاقة- يجب أن نستخدم هنا كلمة "vivant"(صفة الحي)- في "le vivant "(الكائن الحي) هو ذاك الذي يفكك ويُبقي ‘‘l’écart infime’’ مفتوحاً" (لاولور 2005 ،417). يكتب لاولور: يجب أن يُفهم هذا اﻟ écart infime- الذي جعلته الترجمة الانجليزية لكتاب الكلمات والأشياء يعني "الفجوة الطفيفة" (فوكو 1966\1973 ،340\351)- في كلا المعنيين اللذان تحملهما الكلمة الفرنسية "infime": أي كلاً من "طفيف" "miniscule" و "متناهي الصغر" "infinitesimal" أو قابل للقسمة بشكل لا نهائي "infinitely divisible" (لاولور 2005 ،422). أفترضُ أن ما كان لاولور يفكر به عند إسناد حجته على المعنى الثنائي للكلمة الفرنسية infime هو إحدى الصيغ لما يدعوه ساكاي "الاستمرارية في الانقطاع" (ساكاي 2009 ،85). في هذه الحالة، تفسير infime بوصفه "قابل للقسمة بشكل لا نهائي" سُيحيلنا إلى ما تدعوه الرياضيات ﺒ "الاستمرارية"، بينما سيأخذنا تفسيرها ﻟ "الطفيف" إلى اختلاف صغير جداً لا يمكن قياسه، هكذا تتشكل "عدم قابلية القياس ﻟ "المنقطع". في مقابل المفهوم الحديث للإنسان المستند إلى علاقة ملتبسة بين التجربة والمعرفة، فإن نقد فوكو لا يدعو إلى "مزج" ولكن إلى طريقة لجعل الاختلافات الصغيرة غير الممكنة القياس بينهما متقطعة وغير علائقية. و لفعل ذلك يجب العثور علي طريقة في إستراتيجية "النفي المزدوج" الذي "يؤكد" كلا المصطلحين أكثر مما يجمع بينهما (لاولور 2005 ،424).

إن المشكلة مع الابسمتية الغربية الحديثه، وفقاً لكتاب الكلمات والأشياء، هي أن الغموض equivocity والانعكاسية الأساسيتين قد تم تنصيبهما بين التجربة والمعرفة. ليس حل هذه الازدواجية هو ما يعنيني كثيراً هنا بقدر ما اتخذته لأكون حذراً، وهو ما قد خرج من الأركيولوجيا إلى السياسة-الحيوية. تخاطر دائماً السياسة-الحيوية- خصوصاً في ذلك الجزء منها الذي تمت استعارته في الدراسات حول فنون الحكم- بأن تصبح دراسة ‘التجربة الفعلية’ لسياسة الحياة. إذا كانت مشكلة المركزية الأوربية تتعلق بالأساس بالهيمنة التي هي متنقلة ومتحوِّلة ذاتياً، وبمعنى آخر، إن مشكلة "الغرب" ليست محدودة بالغرب، إذ يكمن في صميمها إبهاميَّة جوهريَّة أو خلطاً ثُنائياً بين المعرفة والتجربة. بنفس الطريقة، تصل مشكلة الدولة إلى طريقة ملائمة الثنائيّة، أو الاستيلاء عليها، تحت غطاء "التجربة الحية". لذلك، فإن معارضة التجربة –التجربة الفعلية، التجربة المحلية– بهيمنة الغرب (وتجسُّدها، أي "النظرية الغربية") تنتهي لأن تكون استراتيجية متواطئة على مستوى واسع مع منطق الهيمنة– المدعوم في الدولة، وستسمح للغرب  باستجماع نفسه كافق كذات فى التاريخ الذي يجمع الغرب نفسه وفقاً له كذات في التاريخ أولاً.

سنتذكر في مقابلة لفوكو في طهران 78\9\23، بأنه دعا الدولة ﺒ "المسوخيَّة" monstrosity. إن كلمة "المسخ" هي ترجمة انجليزية عن النص "الأصلي" للمقابلة الذي تم نشره باللغة الفارسية فقط، ومع هذا أشك بأنه سيكون مِن المُقنع أن أؤسس كامل حجتي على كلمة واحدة. رغم أننا يمكن أن نتخذها بالتأكيد كعلامة. أما عن المسوخيَّة، فقد ذكّرنا دريدا بأنها ليست متصلة فقط بعملية التسمية nominalization والتطبيع، ولكن بالاختلاف النوعي والتهجين أيضاً (دريدا 1995 ،385\386). من خلال كتابات فوكو نجد أنه قد يكون من السهل النسيان بأن مظهر الدولة المرتبطة بثبات شديد بالتطبيع هو مرتبط أيضاً بحميمية بنوع أساسي من النظام الأنثروبولوجي والتجريبي الذي يسم التجربة في السياسة الحديثة كما استُثمرتْ بشكلٍ أساسي عن طريق الحياة. 

على الرغم من أنه يبدو- وفقاً للمنطق التاريخاني historicist للأصول و للنسب، بأن الدول الحديثة كُرِّستْ للدفاع عن الخصوصيّة الفطريّة للأمة، فإن مقاربة فوكو الجينيالوجيَّة تحثنا على ترك هذه "المعطيات" وتحويل اهتمامنا للطريقة التي لا تلتزم فيها الدولة بالشعب بحد ذاته، ولكن بفكرة الاختلاف النوعيّ بالعموم.

قد نقول أن الدولة هي اختبار كبير في تجربة مرونة الحيوية-الأنثروبولوجية. سنتذَكر أن كلمة expérience باللغة الفرنسية تغطي باللغة الانجليزية معنى كلٍ من الاختبار experiment والتجربة experience. يقدّم كتاب الكلمات والأشياء تقييماً واضحاً جداً لهذه الرابطة بين الحكوماتية و مرونة الحيوية-الأنثروبولوجية: "في التجربة الحديثة، تتضمّن إمكانية تأسيس الإنسان ضمن المعرفة والظهور المجرد لهذا الشكل في حقل الابستيم إلزامية تسكن الفكر من الداخل؛ إنها لا تعني سوى القليل سواء أكانت مُعطىً مُتداولاً على شكل أخلاق ،سياسة، نزعة إنسانية، واجب لتولي مسؤولية مصير الغرب، أو مجرد وعي لأداء وظيفة بيروقراطية في التاريخ. ما هو أساسي هو أن ذاك الفكر- لنفسه وفي كثافة أعماله معاً- يجب أن يكون في آنٍ واحد معرفة وتغييراً لما يعرفه، انعكاساً وتحويلاً في نمط وجود ذلك الذي ينعكس فيه" (فوكو 1966\1973 ،327\338). إن تحويل الوجود من خلال التبادل بين التجربة والمعرفة هو في قلب كلٍ من مشاريع العالم-التاريخية مثل المركزية الأوربية والانشغال  اليومي للدولة. إن المعادلة الضمنية بين الأخلاق والوظيفيّة البيروقراطية bureaucratic functionalism هي إشارة للخطورة التي يلاحظ بها فوكو القوة التحويلية للمعرفة. إذا كانت الحكوماتية تُعيِّن تكنولوجيا شبه رسمية لإدارة السكان التي تواصل وراء الحدود المؤسساتية التوافُقيَّة للدولة، فإن السياسة-الحيوية تُعيِّن الحالة التي أصبحت فيها تجربة-الحياة مستولى عليها بانتظام من قِبل التكنولوجيات شبه الرسمية الموضوعة في خدمة إدارة مرونة الحيوية-الأنثروبولوجية. إن نظم المعرفة حول ما يدعى الاختلاف الثقافي هي جزء أساسي من التكنولوجيات شبه الرسمية، ويجب أن تُرى كحقول للسياسية-الحيوية في الصراع. ليست مسوخيّة الدولة، أولاً وقبل كل شيء، عملية إجمال للحياة السياسية، ولكنها بالأحرى عملية إجمال الحياة في السياسة والتجربة في المعرفة.

  

 


[1]  إن أهمية التجربة في أعمال فوكو قد تم استكشافها مؤخَّراً عن طريق مجموعة من الأبحاث منها:

Mark Djaballah, Kant, Foucault, and Forms of Experience (Djaballah 2008); Timothy O’Leary, “Foucault, Experience, Literature” in Foucault Studies no. 5 (2008), pp. 5-25; Gary Gutting, “Foucault’s Philosophy of Experience,” boundary 2, vol.29, no.2, 2002, pp. 6985; and Leonard Lawlor, “A Miniscule Hiatus: Foucault’s Critique of the Concept of Lived-Experience (vécu)”, in A.-T. Tymieniecka (ed.), Analecta Husserliana L XXXVIII (Dordrecht: Springer, 2005) 417–427. O’Leary suggests also consulting Timothy Rayner, “Between fiction and reflection: Foucault and the experience book,” Continental Philosophy Review, no.36, 2003, pp.2743; and the chapter on Bataille, Blanchot and Foucault, in Martin Jay, Songs of Experience: Modern American and European Variations on a Universal Theme (Berkeley, CA: University of California Press, , 2006), chap. 9. Judith Revel,

وهذه الأخيرة هي واحدة  من الأكادميين امعتمدن  في الدراسات المتعلقة بفوكو في فرنسا وله أيضاً عمل مهم ولكنه لم يكن متاحاً لي أثناء كتابتي هذا البحث (فهو متعذِّر الطباعة وغير مُتاح في مجموعة مكتبة جامعة تايوان). إن هذا البحث الذي يُقرأ من عنوانه، يتعامل مع مفهوم التجربة/ الاختبار في أعمال فوكو (Paris: Bordas, 2005).. 

 

[2]  إن هذه المقابلة غير مُتضمَّنة في أحاديث و كتابات Dits et Ecrits. ومن غير المعروف بالنسبة لي إذا ما كان هناك نسخة فرنسية عنها. لقد تُرجمت النسخة الانجليزية عن الفارسيّة. 

 

[3]  انظر على ضوء أبحاث الجراحة العصبيّة على "مرآة  الخلية العصبيّة" ومفهوم المرحلة اليرقيّة neoteny، أن الرابط بين المؤسسات الاجتماعيّة وبين اللامبالاة ليس رابطاً عرضياً. Cf. Virno (2003).

 

مراجع النص:

 

- Afary, Janet and Kevin B. Anderson. 2005. Foucault and the Iranian Revolution. Chicago: University of Chicago   Press.

 (يتضمن ترجمات كتابات فوكو في الثورة الإيرانية والتفنيدات ذات العلاقة).

 

- Calichman, Richard, and John Kim. 2010. The Politics of Culture: Around the Work of Naoki Sakai. New York and London: Routledge. Citation of manuscript

  أرقام الصفحات غير متوفرة .

 

- Derrida, Jacques. 1978 (1967). Writing and Difference. Tr. Alan Bass. Chicago: The University of Chicago Press.

 

- Derrida, Jacques. 1995. Points…Interviews, 1974-1994. Tr. Peggy Kamuf, et al. Stanford: Stanford University Press.

 

- Djaballah, Marc. 2008. Kant, Foucault, and Forms of Experience. New York and London: Routledge.

 

- Foucault, Michel. 1966/1973. Les mots et les choses. Paris: Gallimard. English tr. The Order of Things. New York: Vintage Books.

 

- Foucault, Michel. 2001. Dits et Ecrits II. Paris : Gallimard.

 

- Gutting, Gary. 2002. ‘Foucault’s Philosophy of Experience’. In Boundary 2 29:2 (Durham: Duke University Press). 69-85.

 

- Lawlor, Leonard. 2005. ‘A Miniscule Hiatus: Foucault’s Critique of the Concept of Lived-Experience (vécu)’. In A.-T. Tymieniecka (ed.), Analecta Husserliana L XXXVIII (Dordrecht: Springer). 417–427.

 

- O’Leary, Timothy. 2008. ‘Foucault, Experience, Literature’. In Foucault Studies No. 5 (2008), pp. 5-25.

 

- Revel, Judith. 2004. ‘La naissance littéraire de la biopolitique’. Accessed on 2009/04/05 at http://seminaire.samizdat.net/La-naissance-litteraire-de-la,17.html .

 

- Sakai, Naoki. 2009. ‘How do we count a language ? Translation and Discontinuity’. In Translation Studies, 2:1. London and New York: Routledge. 71-88.

 

- Sakai, Naoki, and Jon Solomon. 2005. ‘Addressing the Multitude of Foreigners, Echoing Foucault’. Translation, Biopolitics and Colonial Difference, Traces vol. 4. Hong Kong: Hong Kong University.1-35.

 

- Spivak, Gayatri Chakravorty. 1988. ‘Can the Subaltern Speak?’. Marxism and the Interpretation of Culture. Eds. Cary Nelson and Lawrence Grossberg. London: Macmillan. 271-313.

 

- Virno, Paolo. 2003. Scienze Sociali e ‘Natura Umana’. Facoltà di linguaggio, invariante biologico, rapporti di produzione. Roma: Rubbettino Editore.

- Young, Robert J. C. 1995. ‘Foucault on Race and Colonialism’. تم استشارته في  09/03/23 على موقع http://robertjcyoung.com/Foucault.pdf